فليست وحدها التي كان عليها أبوبكر، بل صور ذلك كثيرة ومنها: صورة الإتباع: وإليكم هذا الموقف الذي يجعلنا نراجع أنفسنا في صدق، وفي وضوح وكمال محبتنا لرسوله صلى الله عليه وسلم، حدث بعد وفاة المصطفى عليه الصلاة والسلام، عندما وقعت اليمامة جاء عمر الفاروق إلى أبي بكر يقول: "إني رأيت القتل استحر بالقراء يوم اليمامة –القراء أحفاظ القرآن- وإني أخشى أن يستحر بهم القتل في المواطن فيضيع شيء من القرآن، وأرى أن تجمع القرآن" مصلحة من مصالح المسلمين، فكان أول ما نطق به أبوبكر أن قال: "كيف أفعل شيئا لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم" تلك محبة الإتباع، فقال له عمر: والله إنه لخير، فما زال عمر بأبي بكر حتى شرح الله صدر أبي بكر للذي شرح له صدر عمر، ثم دعي زيد بن ثابت، شاب من شباب المسلمين من كتاب الوحي، قال له أبوبكر: إنك شاب عاقل، لا نتهمك، كنت تكتب الوحي على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فانظر ما كان من القرآن فاجمعه، من الذي يخاطبه، خليفة المسلمين، من الذي معه عمر الفاروق الشيخان الكبيران الإمامان الجليلان السابقان إلى الإسلام أكثر منه علما وأقدم منه سنا وأعظم منه فضلا، ومع ذلك قال: كيف تفعلان شيئا لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأن الأمة تربت في مدرسة النبوة على أن تحذو حذوه حذو القذة بالقذة، وأن تخطو خطاه خطوة خطوة سائر الأحوال وفي كل المجالات كما قال أبوبكر لزيد إنه والله خير، حتى شرح الله صدر زيد للذي شرح الله له صدر أبي بكر وعمر. أفرأيتم القمم العظيمة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي مقدمتهم أبوبكر، لا يخطون خطوة، لا يتكلمون كلمة، لا يصدرون حكماً، حتى ينظروا فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم فيتبعوه، هو الذي قال عندما جاءت الجدة تسأل عن ميراثها ولم يكن أبوبكر يعلم لها شيئا في كتاب الله، فيسأل هل سمع أحدكم رسول الله صلى الله عليه وسلم يجعل لها شيئا، فقال محمد بن مسلمة: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يجعل لها السدس، فأمضى أبوبكر سنة النبي صلى الله عليه وسلم، هو أول من احتاط لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان يتحرى، هذه وقفة إتباع ظاهرة. وأنقلكم إلى محبة العقل والوعي والثبات، ووضوح الرؤية وصدق ورسوخ اليقين، في الموقف العصيب الذي انهدت له القوى، والذي تصدعت منه كل عوامل الصبر عند أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، يوم انتقل إلى الرفيق الأعلى، يوم فارق هذه الدنيا، فاعتصرت القلوب حزنا، وتقطعت النفوس ألما على فراق رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى طاشت بعض العقول وسقط من سقط لا يطيق قياماً، وكان عمر يقول للناس: ما مات محمد صلى الله عليه وسلم، ولكنه لبى نداء ربه وسيرجع كما رجع موسى عليه السلام، بلغ الخبر إلى الحبيب المحب الأعظم أبي بكر رضي الله عنه، وكان في السمح فجاء لا يروي على شيء حتى دخل على بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ورسول الله مسجى بثوبه، فكشف أبوبكر عن وجه، وقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: بأبي أنت وأمي يا رسول الله طبت حيا وميتا، والله لا يذيقك الله الموتتين فقد مت الموتة التي كتبها الله عليك، هذا المحب يذرف دمعه ويحقق حزنه، لكن ذلك لا ينال من إيمانه، ولا من يقينه ولا يُغيب عقله، ولا يذهب نهجه، فيخرج إلى الناس، وأبوبكر يتحدث فيقول له: أنسط على رسلك يا عمر، وعمر يتكلم، فيتركه أبوبكر ثم يقول: أيها الناس من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت، ثم تلا قول الله عز وجل {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ } [الزمر : 30] وتلا قول الله سبحانه وتعالى: { وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ } [آل عمران : 144] فجثا عمر على ركبتيه وقال ما إن تلا أبوبكر الآية حتى علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد مات، فمن غمر الحب قلبه واستولى على نفسه رأيناه في قمة رجاحة عقله ورسوخ إيمانه وقوة يقينه وثبات موقفه ووضوح منهجه، لا يكون كالحيارى ولا كالسكارى بحال من الأحوال لأن هذه هي المحبة الصادقة التي وقرت في قلب أبي بكر رضي الله عنه. ولئن مضينا فسنمضي إلى صورة تتقاصر عنها الصور كلها، وتتضاءل مواقف المحبين أمامها ولا يمكن أن يبلغ رتبتها أحد إلا أن يشاء الله في موقف ليس له نظير في الأمة كلها، موقف أبي بكر رضي الله عنه بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، موقف النصرة ورفعة الراية وتبليغ الدعوة وحمل أمانة الأمة ومواصلة مسيرة الجهاد، يعلم جميعكم الحال الذي آل إليه أمر المسلمين، حزنا في أعماق قلوبهم، ثم ترك من بعض العرب لأداء الزكاة، وردة من بعض آخر، والأمر مضطرب حتى قال عروة: كنا بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم كغنم في ليلة مطيرة شاتية، حتى جمعنا الله بأبي بكر رضي الله عنه، هنا جاء الموقف الأعظم للصديق أبي بكر رضي الله عنه، وهذه ومضات: أولها: جيش أسامة وما أدراكم ما جيش أسامة الذي عقد لواءه رسول الله صلى الله عليه وسلم وحشد له جل أصحابه ليخرجوا إلى قتال الروم، وأدركت النبي صلى الله عليه وسلم الوفاة واضطرب الأمر وجاء بعض الصحابة لأبي بكر يقولون: إن هؤلاء –أي الجيش- جل المسلمين والعرب كما ترى قد انتفضت ولا ينبغي لك أن تفرق عنك جماعة المسلمين، لا تجعل هذا الجيش يمضي، فأنت في أمس الحاجة إليه، بل قد بعث أسامة قائد الجيش لأبي بكر وعمر وهو يقول: إن معي وجوه المسلمين وجلتهم، ولا آمن على خليفة رسول الله وحرم رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين أن يتخطفهم المشركون فما الذي قاله المحب المتبع المستمسك رضي الله عنه وأرضاه: والذي نفس أبي بكر بيده لو ظننت أن السباع تتخطفني لأنفذت بعث أسامة كما أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولو لم يبقى في القرى غيري لأنفذته" رجل والرجال قليل، محب والمحبون لا يبلغون رتبته، متبع والمتبعون يتقاصرون دون سبقه وبسالته رضي الله عنه وأرضاه. وفي بعض الروايات في السير أن بعض الناس طلبوا من عمر أن يكلمه في هذا الشأن -أي في شأن جيش أسامة لكن من وجه آخر، لأن أسامة كان شابا صغير السن عمره تسع عشرة سنة، أو سبع عشرة سنة، قالوا: لو كلمت أبا بكر لعله يختار غيره من كبار المجاهدين من المهاجرين أو الأنصار، فأي شيء قال أبوبكر: أوه يا عمر، استعمله رسول الله صلى الله عليه وسلم وتأمرني أن أنزعه، كيف يكون ذلك؟ أمضى جيش أسامة بإمرة أسامة بكل من معه من الصحابة، واستأذن في بقاء عمر وحده، رضي الله عنهم أجمعين. والموقف الآخر يوم أرادوا أن ينظروا في الردة، كما روى البخاري: جاء عمر إلى أبي بكر، كيف تقاتل الناس ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فإن هم فعلوا ذلك عصموا مني دمائهم وحسابهم على الله تعالى) فيقول أبو بكر فقيها مؤمنا عالما بصيرا قويا ثابتا داعيا مجاهدا: والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة، والله لو منعوني عقالا لقاتلتهم دونه (5) . ويمضي على رأيه الحازم الحازم، ويبعث أحد عشر جيشاً فيستتب الأمر وتجتمع الكلمة ويعود الصف، وبعد تسعة أشهر جيوش المسلمين تدك أبواب فارس والروم، هذا محب فأين المحبون المدعون، أين المحبون الذين ليس لهم من إتباع النبي صلى الله عليه وسلم حضا ولا نصيب، أين المحبون الذين لا يحملون دعوته ولا ينشرون سنته ولا يغيرون على حرمته وعلى مقامه صلى الله عليه وسلم. أسأل الله عز وجل أن يجعلنا ممن يحبونه أصدق حب وأخلصه من أعماق قلوبنا ونفوسنا، وأن يجعلنا من أصدق وأخلص المتبعين له، ومن أحرص الداعين إلى سنته والذابين عن سيرته صلى الله عليه وسلم. أقول هذا القول واستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم. الخطبة الثانية وإن من تقوى الله محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذه الصورة أو هذا المثل المتعدد الصور ضربته بأبي بكر رضي الله عنه، ولا أحسب أن غيره يكون مثله، فهل رأيتم هذا الكمال في المحبة، صدق في المشاعر والود تذرف به الدمعة ويحزن له القلب، وهل رأيتم صورة من الإتباع أكمل من تلك الدقة والموافقة حتى كان أبوبكر وعمر يذهبان إلى أم هانئ فيذكران رسول الله صلى الله عليه وسلم ويبكيان وتبكي معهما لفقد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهل رأيتم في القوة وحمل الأمانة ونصرة الدين والأمة مثل ما كان من أبي بكر، فلئن كنا أحباب رسول الله صلى الله عليه وسلم فلنكن على خطى أبي بكر رضي الله عنه، ولقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عنا معاشر الذين جاءوا من بعده ولما يروه بأنهم لهم مزية عندما يقول: أقوام أحبوني ولما يروني" (6) كما ورد في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم. وإليكم هذه الصورة أختم بها لنرى الفرق بعض التابعين سأل حذيفة بن اليمان: "ما كنتم تفعلون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم" أنتم يا من اختاركم الله بصحبته، يا من كحلتم أعينكم برؤيته، يا من شنفتم آذانكم بسماع صوته، يا من لامستموه وعايشتموه، كأنه أراد صورة من الحب الوضيء الذي يتغنى بالعاطفة وحدها، فقال حذيفة: "كنا والله نجهد" كانت الصحبة فيها مشقة، فيها جهاد فيها استشهاد، فيها تعب، لم تكن مجرد عاطفة، لم تكن مجرد أبيات أو قصائد، لم تكن مجرد أغنيات أو أناشيد، لم تكن مجرد هذا الذي قد ننشغل به ونغرق فيه ونضن أننا بلغنا رتبة عليا قال: "كنا والله نجهد" فقال ذاك بلسان الحب والصدق أيضا "أما لو أدركناه لما تركناه يمشي على الأرض بل نحمله على أعناقنا" فقص عليه حذيفة ذلك الموقف قال: "كنا يوم الخندق –يوم اجتمع على المسلمين شدة البرد وشدة الجوع وشدة الخوف- فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم من يذهب ويأتيني بخبر القوم، فلم يقم أحد وفي القوم أبوبكر وعمر" موقف عصيب، ليست القضية قضية عواطف وكلمات، هي مواقف ودماء وأرواح، قال: من يذهب ويأتيني بخبر القوم وأضمن له العودة، فلم يقم أحد وفي القوم أبوبكر وعمر، فقال: قم يا حذيفة، فلم أجد بداً حين سماني رسول الله صلى الله عليه وسلم (7) . وفي رواية مسلم في صحيحه، لما عاد حذيفة قال: (أدركت رسول الله صلى الله عليه وسلم واقفا يصلي فرفع ثوبه فدخلت بين رجليه أستدفئ من شدة البرد) (
تلك كانت صحبة الأصحاب رضوان الله عليهم، فدوه بأرواحهم، جعلوا صدورهم دون صدره، ونحورهم دون نحره، جعلوا أنفسهم فداء له صلى الله عليه وسلم. ويوم كان الرجل يتكلم بالكلمة ولو من بعيد ينال فيها من شيء من قدر رسول الله صلى الله عليه وسلم، يجد الأصحاب المغاوير واقفين له بالمرصاد، وذاك يوم جاء يستشفع بالرسول ويتقرب إليه من المشركين، ثم رفع يده يمسك لحية النبي صلى الله عليه وسلم، والمغيرة واقف فكف يده وقال: "يدك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم" حتى قال: "وفدت على الملوك فما رأيت أحد يعظم أحداً ولا أحدا يحب أحدا كمحبة أصحاب محمد محمداً، والله ما تنخم نخامة إلا وقع في يد أحدهم، فدلك بها جلده ووجهه" هكذا كان الأصحاب في كل هذه الموقف المتنوعة جمعوا الحب والمحبة من وجوهها، فنسأل الله أن يجعلنا صادقين في محبة ورسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي نصرة سنته وفي الذب عن سيرته، وفي القيام بدعوته, وفي تبليغ رسالته. ----------- الهوامش : (1) رواه الإمام أحمد في مسنده. رقم الحديث: [17793]. ونصه: عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قَالَ كُنَّا جُلُوسًا عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ إِنَّ أَوْسَطَ عُرَى الْإِيمَانِ أَنْ تُحِبَّ فِي اللَّهِ وَتُبْغِضَ فِي اللَّهِ (2) رواه البخاري. رقم الحديث: [14] . (3) رواه الترمذي. رقم الحديث: [3722] . (4) رواه الإمام أحمد في مسنده. رقم الحديث: [6739] . (5) رواه البخاري. رقم الحديث: [1312] . (6) رواه مسلم. رقم الحديث: [367] ونصه: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَتَى الْمَقْبُرَةَ فَقَالَ السَّلَامُ عَلَيْكُمْ دَارَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ بِكُمْ لَاحِقُونَ وَدِدْتُ أَنَّا قَدْ رَأَيْنَا إِخْوَانَنَا قَالُوا أَوَلَسْنَا إِخْوَانَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ أَنْتُمْ أَصْحَابِي وَإِخْوَانُنَا الَّذِينَ لَمْ يَأْتُوا بَعْدُ فَقَالُوا كَيْفَ تَعْرِفُ مَنْ لَمْ يَأْتِ بَعْدُ مِنْ أُمَّتِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَالَ أَرَأَيْتَ لَوْ أَنَّ رَجُلًا لَهُ خَيْلٌ غُرٌّ مُحَجَّلَةٌ بَيْنَ ظَهْرَيْ خَيْلٍ دُهْمٍ بُهْمٍ أَلَا يَعْرِفُ خَيْلَهُ قَالُوا بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ فَإِنَّهُمْ يَأْتُونَ غُرًّا مُحَجَّلِينَ مِنْ الْوُضُوءِ وَأَنَا فَرَطُهُمْ عَلَى الْحَوْضِ أَلَا لَيُذَادَنَّ رِجَالٌ عَنْ حَوْضِي كَمَا يُذَادُ الْبَعِيرُ الضَّالُّ أُنَادِيهِمْ أَلَا هَلُمَّ فَيُقَالُ إِنَّهُمْ قَدْ بَدَّلُوا بَعْدَكَ فَأَقُولُ سُحْقًا سُحْقًا . (7) رواه الإمام أحمد في مسنده. رقم الحديث: [22244] . (
رواه مسلم. رقم الحديث: [3343] .